ابو فايز
11-03-2009, 10:41 PM
.أطيب طعام واشعر بيت .
صنع عبد الملك بن مروان طعاماً فأكثر واطاب ، ودعا إليه الناس فأكلوا فقال بعضهم :
ما أطيب هذا الطعام ! ما نرى أن أحداً رأى أكثر منه، ولا أكل أطيب منه .
فقال أعرابيٌ من ناحية القوم : أما أكثر فلا ، وأما أطيب فقد-والله- أكلت أطيب منه .
وطفقوا يضحكون من قوله. فأشار إليه عبدا لملك فأدنى منه . فقال : ما أنت بمحق فيما تقول إلا أن تخبرني بما يبين به صدقك.
فقال نعم يا أمير المؤمنين ! بينما أنا بهجر في ترب أحمر في أقصى حجر إذ توفي أبي وترك كلاً وعيالاً ، وكان له نخل ، فكانت فيه نخلة لم ينظر الناظرون إلى مثلها:
كان ثمرها أخفاف الرباع (2)
لم ير ثمر قط أغلظ ولا اصلب ، ولا أصغر نوى ، ولا أحلى حلاوة منها ، وكانت تطرقها أتان وحشّية قد ألفتها تأوي الليل تحتها فكانت تثبي رجليها في أصلها وترفع يديها ، وتعطو(3)
بفيها فلا تترك
فيها إلا النبذ (4) والمتفرق فأعظمني (5)
ذلك ووقع مني كل موقع ، فانطلقت بقوسي وأسهمي وأنا أظن أني أرجع من ساعتي فمكثت يوماً وليلاً لا أراها حتى كان السحر أقبلت فتهيّأت لها فرشقتها (6) فأصبتها وأجهزت (7)
عليها ثم عمدت إلى سرتها(8) ، فأقريتها(9) ثم عمدت إلى حطبٍ جزل فجمعته إلى رضفٍ (10) ، وعمدت إلى زندي فقدحت وأضرمت النار في ذلك الحطب وألقيت سرتها فيها وأدركني نوم السبات (11)
فلم يوقظني إلا حر الشمس في ظهري فانطلقت إليها فكشفتها وألقيت ما عليها من قذى أو سواد أو رماد، ثم قلبت مثل الملاءة البيضاء فألقيت عليها من رطب تلك النخلة المجزعة (12) والمنصفة (13) فسمعت لها اطيطاً (14)
كتداعي عامر وغطفان . ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة فأضعها بين التمرتين وأهوي إلى فمي .
أحلف أني ما أكلت طعاماً مثله قط.
فقال له عبد الملك : لقد أكلت طعاماً طيباً. فمن أنت ؟ قال: أنا رجل جانبتني عنعنة (15) تميم وأسد ، وكسكسة (16) ربيعة وحوشي (17) أهل اليمن وإن كنت منهم . فقال :
من أيهم أنت ؟ قال: من أخوالك من عذرة . قال:
أولئك فصحاء الناس.
فهل لك علم بالشعر؟ قال: سلني بذلك يا أمير المؤمنين! قال: أي بيت قالته العرب امدح؟ قال : قول جرير.
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح.
قال وجرير في القوم ، فرفع رأسه وتطاول لها، ثم قال :
أي بيت قالته العرب أفخر؟ قال قول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم .... حسبت الناس كلهم غضابا.
قال: فتحرك ، ثم قال له : فأي بيت أهجى ؟ قال : قول جرير:
فغض الطرف انك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا.
قال : فاستشرف (18) لها جرير واهتز وطرب ، ثم قال له في بيت قالته العرب أحسن تشبيهاً ؟ قال: قول جرير.
سرى نحوهم ليل كأن نجومه ..... قناديل فيهن الذبال المفتل .(19)
فقال جرير : جائزتي للعذري يا امير المؤمنين! فقال عبد الملك : وله مثلها من بيت المال ولك جائزتك ياجرير !
لانتقص منها شيئاً . وكانت جائزة جرير أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة . فخرج العذري وفي يده اليمنى ثمانية الآف درهم وفي اليسرى رزمة ثياب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
(2) الفصيل ينتج في الربيع وهو أول الناتج شبه الثمر في نعومته .
(3) تناول.
(4) أي القليل اليسير.
(5) أفزعني ذلك وعظم علىّ.
(6) رميتها.
(7) أجهز على الجريح شد عليه وأتم قتله .
(8) التجويف الصغير المعهود في وسط البطن .
(9) قطعت وشققت وأصلحت..
(10) الحجارة المحماة واحدها رضفة.
(11) النوم العميق.
(12) الرطب المجزع ما بلغ النضج إلى نصفه
(13) نصف النخل أحمر بعض بسره وبعضة اخضر.
(14) أي صوتاً.
(15) أي لفظ في كلام ألهمزه كالعين.
(16) إلحاق كاف المؤنث سيناً عند الوقف نحو بكس في بك وأكرمتكس
(17) الوحشي الغريب.
(18) .آي انتصب.
(19) جمع ذبالة .وهنا شبه الجيش بالليل والرماح التي يحملها الجنود كأنها النجوم.
مختارات من ادب العرب لابي الحسن الندوي.
ابو فايز
15-11-1430هـ
صنع عبد الملك بن مروان طعاماً فأكثر واطاب ، ودعا إليه الناس فأكلوا فقال بعضهم :
ما أطيب هذا الطعام ! ما نرى أن أحداً رأى أكثر منه، ولا أكل أطيب منه .
فقال أعرابيٌ من ناحية القوم : أما أكثر فلا ، وأما أطيب فقد-والله- أكلت أطيب منه .
وطفقوا يضحكون من قوله. فأشار إليه عبدا لملك فأدنى منه . فقال : ما أنت بمحق فيما تقول إلا أن تخبرني بما يبين به صدقك.
فقال نعم يا أمير المؤمنين ! بينما أنا بهجر في ترب أحمر في أقصى حجر إذ توفي أبي وترك كلاً وعيالاً ، وكان له نخل ، فكانت فيه نخلة لم ينظر الناظرون إلى مثلها:
كان ثمرها أخفاف الرباع (2)
لم ير ثمر قط أغلظ ولا اصلب ، ولا أصغر نوى ، ولا أحلى حلاوة منها ، وكانت تطرقها أتان وحشّية قد ألفتها تأوي الليل تحتها فكانت تثبي رجليها في أصلها وترفع يديها ، وتعطو(3)
بفيها فلا تترك
فيها إلا النبذ (4) والمتفرق فأعظمني (5)
ذلك ووقع مني كل موقع ، فانطلقت بقوسي وأسهمي وأنا أظن أني أرجع من ساعتي فمكثت يوماً وليلاً لا أراها حتى كان السحر أقبلت فتهيّأت لها فرشقتها (6) فأصبتها وأجهزت (7)
عليها ثم عمدت إلى سرتها(8) ، فأقريتها(9) ثم عمدت إلى حطبٍ جزل فجمعته إلى رضفٍ (10) ، وعمدت إلى زندي فقدحت وأضرمت النار في ذلك الحطب وألقيت سرتها فيها وأدركني نوم السبات (11)
فلم يوقظني إلا حر الشمس في ظهري فانطلقت إليها فكشفتها وألقيت ما عليها من قذى أو سواد أو رماد، ثم قلبت مثل الملاءة البيضاء فألقيت عليها من رطب تلك النخلة المجزعة (12) والمنصفة (13) فسمعت لها اطيطاً (14)
كتداعي عامر وغطفان . ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة فأضعها بين التمرتين وأهوي إلى فمي .
أحلف أني ما أكلت طعاماً مثله قط.
فقال له عبد الملك : لقد أكلت طعاماً طيباً. فمن أنت ؟ قال: أنا رجل جانبتني عنعنة (15) تميم وأسد ، وكسكسة (16) ربيعة وحوشي (17) أهل اليمن وإن كنت منهم . فقال :
من أيهم أنت ؟ قال: من أخوالك من عذرة . قال:
أولئك فصحاء الناس.
فهل لك علم بالشعر؟ قال: سلني بذلك يا أمير المؤمنين! قال: أي بيت قالته العرب امدح؟ قال : قول جرير.
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح.
قال وجرير في القوم ، فرفع رأسه وتطاول لها، ثم قال :
أي بيت قالته العرب أفخر؟ قال قول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم .... حسبت الناس كلهم غضابا.
قال: فتحرك ، ثم قال له : فأي بيت أهجى ؟ قال : قول جرير:
فغض الطرف انك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا.
قال : فاستشرف (18) لها جرير واهتز وطرب ، ثم قال له في بيت قالته العرب أحسن تشبيهاً ؟ قال: قول جرير.
سرى نحوهم ليل كأن نجومه ..... قناديل فيهن الذبال المفتل .(19)
فقال جرير : جائزتي للعذري يا امير المؤمنين! فقال عبد الملك : وله مثلها من بيت المال ولك جائزتك ياجرير !
لانتقص منها شيئاً . وكانت جائزة جرير أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة . فخرج العذري وفي يده اليمنى ثمانية الآف درهم وفي اليسرى رزمة ثياب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
(2) الفصيل ينتج في الربيع وهو أول الناتج شبه الثمر في نعومته .
(3) تناول.
(4) أي القليل اليسير.
(5) أفزعني ذلك وعظم علىّ.
(6) رميتها.
(7) أجهز على الجريح شد عليه وأتم قتله .
(8) التجويف الصغير المعهود في وسط البطن .
(9) قطعت وشققت وأصلحت..
(10) الحجارة المحماة واحدها رضفة.
(11) النوم العميق.
(12) الرطب المجزع ما بلغ النضج إلى نصفه
(13) نصف النخل أحمر بعض بسره وبعضة اخضر.
(14) أي صوتاً.
(15) أي لفظ في كلام ألهمزه كالعين.
(16) إلحاق كاف المؤنث سيناً عند الوقف نحو بكس في بك وأكرمتكس
(17) الوحشي الغريب.
(18) .آي انتصب.
(19) جمع ذبالة .وهنا شبه الجيش بالليل والرماح التي يحملها الجنود كأنها النجوم.
مختارات من ادب العرب لابي الحسن الندوي.
ابو فايز
15-11-1430هـ