عبد الله المبرد
هذه حقيقتهم فانتبهوا!!
في أحد شوارع الرياض الكبيرة، وفي هذا الصيف اللاهب، أوقف الزحام - كالعادة - أكداس السيارات، وصارت تزحف بتثاقل وكأنها كتلة واحدة. كانت أمامنا مباشرة عربة لنقل العمال، وهو منظر مألوف؛ حيث يعود كثير من عمال الشركات عند الخامسة عصراً من أعمالهم. لست أدري هذه المرّة بالذات لماذا أثارني منظر العمال؟! ورحت -دون شعور - أقرأ ما وراء ملامح وجوههم الشهباء.. التفتّ إلى ولدي إلى جانبي فوجدته غارقاً في العبث بجهاز الآي فون الذي معه. رمقت شاشة الجهاز فإذا أحد الألعاب المثيرة هي التي أخذت كل اهتمامه حتى غاب عمّا حوله!!
رجعتُ إلى مشهد العمّال، ثم التفتّ مرة أخرى لولدي وسألته: هل يؤذيك هواء المكيف؟ فأومأ برأسه: لا. فأدرت نظري نحو العمّال، ثم التفتّ مرة أخرى إليه، وسألته: هل أزيد برودة المكيف؟ رفع رأسه مستغرباً تتابع السؤالين!! قلت له: الشمس محرقة، والجو لافح في الخارج!! قال: وزحام أيضًا و(زهق)!! قلت: "لكن الحمد لله السيارة مريحة وممتازة، وما ورانا شي، صح؟!" قال مازحاً: "أنت يا أبي فرحان بجيب (لاند كروزر) والناس عندهم بي إم دبليو!!".
وذكر أسماء سيارات لا أعرفها، ولا أعرف حتى أنطق أسماءها!!
ولمّا رأى الدهشة في وجهي ابتسم ابتسامة المنتصر؛ حيث ظنّ أنّه أشعرني بمنزلتي المتواضعة جداً في سلم المجتمع!! تركته حتى عاد إلى مداعبة جهازه، ولما رأيته استغرق معه، غمزت ركبته فالتفت إلي، قائلاً: "سمّ يا أبي!!" فأومأت بوجهي للعمّال الذين ليس بيننا وبينهم غير مقدمة السيارة ونصف متر إضافي. نظر الولد وكأنه لم يدرك ما عنيته. قلت: هل ترى هؤلاء الشباب؟ قال مستغرباً: العمال؟ واصلتُ دون أن أتوقف عند سؤاله: هل ترى هذا الشاب ذا السترة الزرقاء؟ كم تقدِّر عمره؟! ضحك والدهشة تملأ عينيه وقال: الله يجزيك الخير يا أبي!! كيف أعرف أعمار العمال؟! قلتُ: هل يعني أنهم لو كانوا سعوديين مثلاً ستعرف أعمارهم؟ قال: طبعاً يا أبي!! أستطيع أن أقدّر ولو تقريباً!! قلت: ما الفرق يا بني؟ إنهم شباب مثلكم تماماً!! بالله عليك يا ولدي اترك جهازك قليلاً، وانظر معي إلى الشاب الآخر الذي أسند رأسه إلى جانب الصندوق الحديدي الذي يزدحمون فيه!! انظر إلى ملامح وجهه الشاحب، الذي أذهبت الشمس لونه الطبيعي، إنه شاب قريب من سنّك، ومثلك يا ولدي له وطن يشتاق إليه، له عائلة يتذكرها، له أمّ يحنّ إلى نبرة صوتها ونظرة عينيها.. هذا الشاب مثلك يا ولدي، هل تفهم؟! له قلب ينبض بالمشاعر، وفؤاد يخفق بالأحلام، يفكر في فتاة يقترن بها، ويأوي إلى حبّها وحنانها، يتمنى بيتاً أو كوخاً يمتلكه يرى فيه مملكة لا يدانيها مًُلك، انظر إليه والنعاس يغلبه، ثم تهزّه حركة السيارة بعنف؛ فيفتح عينيه ويرمي بنظرة شاردة بعيدة ترى فيها - لو قرأتها يا ولدي - آمالاً هي في عينه كل دنياه وكل عذاباته.. إنه يا ولدي لا يعرف السيارات التي ذكرتها قبل قليل.. ولا أظنه يفكر في الآي فون الذي معك!! تخيل يا ولدي إنه لا يحسدك ولا يفكر فيك أصلاً؛ لأنه يراك في عالم آخر لا يحلم في إدراكه!! إن أمنياته وأحلامه وقفت دون ذلك بكثير.. وقفت قبل أن تصل إلى مستوى (الأكورد) التي معك ولا حتى (الهايلكس) التي مللت منها وتركتها!! هذا الشاب يا بني الآن سيذهب إلى غرفة مزدحمة بأمثاله، وربما سيقف طويلاً أمام حمام متهالك، يتقطع فيه الماء؛ ليغسل عن جسده طبقات التراب التي تغلغلت في جذور فروة رأسه، وفي كل موضع شعرة من جسمه!! ثم سيخرج متلفّعاً بقماش مهترئ ليبادر إلى بعض حبًّات من البطاطس والطماطم؛ ليشترك مع رفاقه في تقطيعها وطبخها لتسدّ جوعتهم.. وفجأة التفتّ إليه وبادرته: على فكرة ماذا تريد أن تتعشى اليوم؟ نظر إليّ نظرةً خجلى، ثم ابتسم وقال في حياء: بصراحة يا أبي كنت قبل شوي أفكر في (................) - وذكر أحد مطاعم الرياض الشهيرة - لكن بعد سالفة العمال صعبة!! صح يا أبي؟! واصلتُ حديثي – وقد استأسرتْ نفسي للتأمّل والاعتبار -: ولدي! هذا الشاب سيلقي بجسمه المكدود على فراش بالٍ، وسيسبح خياله هناك.. بعيداً.. يتخيّل نفسه وقد جمع - بعد عدد من السنوات - بضعة آلاف من الريالات (ربما مثل ثمن جوالك أو ضعفه) ثم عاد إلى والديه اللذين أضناهما فقده وأجهدهما انتظاره.. إنهم بشر يا ولدي!! الخادمة التي في البيت هي أمٌّ!! نعم إنها أمٌّ!! لديها - كما باحت بذلك مراراً - ثلاثة أطفال، أكبرهم بنت في التاسعة من عمرها، وأصغرهم رضيعة لم تبلغ سوى عشرة أشهر!! هم هناك!! وهي هنا لدينا في البيت تنظف الأرضيات، وتتعهد الحمامات، وتصفصف الأحذية!! هل تظن يا بني أنها نسيت صغارها؟! أو سلت عنهم؟! إذا كنت يا ولدي تحتاج إلى أن أترجم لك كلمة (أُمّ) فانظر إلى أمّك!! إن للخادمة قلباً – تماماً - مثل قلب أمك!! يفيض بالحب والشوق واللهفة لصغاره!! هل رجعت يوماً إلى البيت متأخراً عن موعدك المعتاد ولو لساعة من الزمن؟! هل أبصرت - لحظتها - اللوعة والفرحة في عيني أمك؟! ذات مرّة سألتُ أمّك: هل تصحبينني في سفرتي هذه لمدة أسبوع؟!! قالت مستنكرة: وأترك أطفالي؟! قلت - وكنتُ جاداً -: ليس من بينهم رضيع، وعندهم الخادمة وإخوانهم الكبار، وأختك ليست بعيدة!! قالت وهي تضم أختك الصغرى إلى صدرها: لا والله!! ما أقدر أنام إلّا وهي في حضني!!! يا لله، إذاً هذه الأنثى المسكينة كيف استطاعت فراق أطفالها؟! لك أن تتخيلها وهي تودعهم إلى بلادنا.. يا رحمة الله بها وهي تضمّهم إلى صدرها وقلبُها يكاد يذوب تحرّقا عليهم، وجزعاً من فراقهم، وخوفاً عليهم من بعدها.. تصوّر لوعتها وهي تصفف ملابسهم، وتوصي بهم، ولا تدري أتعود إليهم أم أنها اللحظات الأخيرة معهم؟! انظر إليها وهي تسلّيهم بكلمات وهي لا تسلو عنهم!!
تبتسم في وجوههم وأجفانها قد تقرّحت بكاء عليهم!! إذا غلبتها فجيعة الفراق أشاحت بوجهها عنهم ترفّقاً بقلوبهم.. وليس لها من يرفق بها!! كلما تذكّرتْ أن غيبتها ليست يوماً ولا يومَيْن، ولا شهراً ولا شهرَيْن، بل سنتَيْن بأعيادهما الأربعة!! ستعيشها بعيداً عن حبّات فؤادها!!! إذا ذكرت طول غيبتها زفرت زفرة تذيب صلد الحديد!! أتظن يا بني أنها عندنا - إذا أنهت يومها الثقيل المزدحم بالأعمال - تذهب إلى غرفتها لتنام؟!! والله إني لأظنّها تكاد - لولا لطف الله بعباده - تذوب لوعة وتحرّقاً وهي تتذكر فراخها!! ونحن يا بني كل ما نراه من عالمهم أنها (شغّالة رايحة! وشغّالة جاية)، ننظر إليهم ونتعامل معهم أحياناً وكأنهم آلات استوردناها لتعمل فقط متى أردنا، وكأنهم بلا قلوب، ولا أرواح ولا مشاعر، ولا طموحات ولا تطلعات.. بلا أحزان ولا أفراح..
إن السائق والخادمة وعمال البلدية يحتاجون إلى لحظات نقاسمهم فيها البسمة والدمعة، الأمل، يتطلعون إلى أن نحسّ بآدميتهم ونراعيها، يريدون أن نُشعرهم بأنهم إخوة فحسب، يجمعنا بهم بيت وعمل ومجتمع، فالتّمايز المادي الذي بيننا ليس لهم فيه ذنب، ولا لنا فيه فضل!! ولو شاء ربّك لبدّل الأحوال وعكس المواقع.. {ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم، إن ربك سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم} ولاحظ يا بني التلويح بالعقاب {سريع العقاب}، وذلك في حال الإخفاق في امتحان التباين الاجتماعي!!