الوقفة الأولى: تذكر فراق الدنيا عند وداع الأهل والأحباب
لذلك أحبتي في الله نسير مع هذه الركاب، وننتقل مع هذه الرحلة مرحلة مرحلة، لماذا عز عند الله شأنهم وارتفع عند الله قدرهم؟ لأن الحاج إلى بيت الله في جهاد وجلاد، من أول لحظة تدخل فيها تلك الكلمة التي تدعوه إلى الإقبال إلى بيت الله يعيش الصراع، هل أحج هذا العام أم أرجئ إلى الأعوام القادمة؟ يعيش أول ما يعيش في صراع مع نفس متخاذلة عن طاعة الله متثابطة، يصارعها.. يجالدها.. يجاهدها، ثم مع الزوجات، ثم مع الأبناء والبنات، ثم مع الأموال والتجارات، أأحج أم لا أحج؟ أأنتظر أم أبادر..؟ حتى يشاء الله عز وجل أن يختاره في الركاب. فإذا عقدت النفس النية، وعقد القلب العزم على المسير إلى الله، والانتقال إلى رياض رحمة الله، إلى البيت العتيق، حتى إذا صدق عزمه وقوي يقينه؛ عندها تكون أول وقفة لنا مع الحاج إلى بيت الله الحرام. إذا عقدت الحج إلى بيت الله الحرام كانت أول وقفة حينما تشد الرحال، وتعزم على المسير إلى الكبير المتعال. فتقف على الباب لكي تنظر إلى الابن والبنت، لكي تنظر إلى الأخ والأخت، لكي تنظر بدمعة تسح على الخد لفراقهم، حتى إذا أصابت سويداء قلبك تلك الحسرة على فراقهم، إذا بنداء من الأعماق يذكرك بيوم عظيم، يذكرك بساعة للفراق وأي ساعة فراق! تناديك نفسك: يا عبد الله! اليوم تودعهم، وأنت قادر على الوداع بكلمات رقيقات؛ فكيف إذا انقطع الأثر وخسف البصر ونفذ القدر. كيف بك إذا أصبحت أسيراً للمسير إلى الله؟ فلذلك تتحرك في النفس ذكر الآخرة، تتحرك في سويداء القلب تلك العظة البالغة، اليوم تودعهم وغداً يودعونك، واليوم تنظر إليهم وغداً ينظرونك، اليوم تبادلهم الكلمات فمن لك إذا انقطع لسانك، ووجل جنانك، ولم تستطع أن تبيح بما في النفس من حسراتها. فهذه أول وقفة، ومن هذه الوقفة إلى ختام الحج تنتقل من مرحلة إلى مرحلة تذكر بالآخرة؛ فتجيش في النفس عبرتها؛ وتحرك في القلوب خشوعها.
الوقفة الثانية: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج من لبس الإحرام
أما الوقفة الثانية: فبعد لحظات يسيرة فارقت الأهل والإخوان، وودعت الأحباب والخلان، فإذا بأوامر الشرع تأتيك عند الميقات، انزع ثيابك، وتجرد عن مخيطك، واغتسل لحجك وعمرتك؛ فاستجبت ولبيت، وقلت: سمعاً وطاعة. فغسلت واغتسلت وأزلت عنك الثياب. وما إن رفعت الثوب عن الجسد حتى تحركت في النفس أشجانها، وانبعثت في القلوب أحزانها، اليوم أزيل لباسي بنفسي، فكيف بغدٍ إذا أزيل عني لباسي؟! اليوم أرفع ثوبي بنفسي وأجرد عني المخيط، فكيف بي غداً إذا جردت من الثياب، وولجت من ذلك الباب مصيراً إلى رب الأرباب؟! اليوم أغسل نفسي، فكيف بي غداً إذ يغسلونني؟! وكيف بي إذ يكفنونني؟! وما هي إلا لحظات حتى تلبس الإزار وتنزع المخيط، وتنخرط مع تلك الجماعات؛ تلبية.. توحيداً.. تكبيراً.. تمجيداً، لا إله إلا الله! ما أعزها من خُطىً عند الله، وما أكرمها من وفود على الله، منذ أن تجردت من لباسك وأصبحت في عداد المحرمين، كأن هيئتك تقول لك: الآن أصبحت مع المحرمين، وغداً ستصير في عداد المغتربين. كما أن صاحب الإحرام تحظر عليه محظورات الإحرام، فلا طيب ولا متعة من الأمور المرفهة، كذلك إذا أوسد في لحده وأودع في قبره، فكأنه في المرحلة الثانية بعد لبس إزاره وردائه، فالله أكبر! ما أجلها من عظات، والله أكبر! ما أعظمها من آيات، دلت وشهدت بوحدانية رب البريات، فسارت الخطى على تلك الأرض، التي والله ما رفعت قدماً ولا حططت أخرى إلا سطرت في ديوانك، ولقيت بها رباً يبيض بها الوجوه إذا لقيه أصحابها.
وانتظروا الحلقة الثالثة والرابعة غدا بمشيئة الله