بطيبة رسم للرسول ومعهدٍ,,..

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
فقد شرف الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وميزهم وخصهم على سائر البشر بفضيلة عظيمة بعد الإسلام ألا وهي صحبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والتمتع برؤية وجهه المشرق البهي والجلوس إليه ومرافقته في الحل والترحال وسماع الموعظة والعلم منه مباشرة من فمه الشريف، فيا له من تكريم وياله من شرف تغبطه عليهم القلوب المؤمنة التي يتدفق فيها حب النبي صلى الله عليه وسلم، فالمؤمنين الصالحين لا يترددون في تقديم أموالهم وأولادهم في مقابل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليأتين على أحدكم زمان، لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله" وهي إشارة منه صلى الله عليه وسلم بغربة الدين في زمان الفتن.
كان الصحابة يتمتعون بهذا التشريف الكبير الذي من الله تعالى به عليهم فيحفظهم بالوحي من الزيغ والضلال والإنحراف فتعلقت قلوبهم وأرواحهم بهذا النداء العلوي السامي القادم من السماء "واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان"، وكانو يتمتعون ويتبركون بوجود هذه الشخصية العظيمة التي ليس لها مثيل في بني الإنسان فمنهم من كان يتبرك بوضوئه صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث السائب بن يزيد في البخاري ومسلم ومنهم من كان يتبرك بعرقه ويضيفه إلى الطيب لكي يتطيب به كما فعلت أم سليم في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنها رضي الله عنها كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعاً (أي بساطاً من جلد) فيقيل عندها على ذلك النطع، قال: فإذا نام النبي صلى الله عليه وسلم أخذت من عرقه وشعره، فجمعته في قارورة، ثم جمعته في سُكِّ. (أي أضافته إلى طيب آخر).
عندما نقرأ قول الصحابي رأيت النبي، سمعت النبي، كنت مع النبي، سألت النبي، كان النبي كذا وكذا نشعر بهذه المزية العظيمة وهذا التشريف الكبير لـؤلئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيزاد القلب حباً له وتعلقاً به وبسنته عليه الصلاة والسلام.
وكما أن المرء يشعر بفراق محبوبه الذي رافقه وعايشه ورأى منه ما يحب ووجد منه النصح والشفقة والمحبة والرحمة، فلنا أن نتخيل حال الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وفراقه لهم، فكيف كانوا يسيرون في طرقات المدينة والواحد منهم يعلم أنه لن يلقى ذلك الوجه الذي وصفه كعب بن مالك بأنه كان يستنير كأنه قطعة قمر، ولن تلامس يده تلك اليد التي وصفها أنس بن مالك بأنها ألين من الحرير ومن الديباج وبأن عرقه صلى الله عليه وسلم كان أطيب من المسك....ترى كيف تصبروا وكيف تجلدوا في ذلك المصاب الكبير وذلك الفراغ الرهيب الذي شعروا به لفقدانه صلى الله عليه وسلم وكيف تعاملوا مع ذلك الشوق والحنين الذي طالما أشعلته في قلوبهم الذكريات الجميلة مع الحبيب صلى الله عليه وسلم.

لقد صور شاعر الإسلام حسان بن ثابت في قصيدته الجميلة التي رثى فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم، صور فيها تلك الحالة التي مرت عليه وعلى كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقاته فبين فيها لحظات الحنين والشوق التي تعتصر القلوب وتدمع المقل وصور فيها كيف أن كل شيئ حوله كان يذكره بالحبيب صلى الله عليه وسلم ولم يفته أن يذكر المنقبة العظيمة التي حظى بها قبره المبارك صلى الله عليه وسلم واللحد الذي لحد فيه فقال:
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت***بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبا***عليه بناء من صفيح منضد
هذا نص قصيدة حسان بن ثابت المعبرة التي قالها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نقرأها لنزداد حباً للحبيب صلى الله عليه وسلم ولنفرح ونسعد بأننا من أتباع هذا النبي الكريم ولنتذكر أن حبه عليه الصلاة والسلام يقتضي اتباع سنته والحياة وفق شريعته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
بطيبة رسم للرسول ومعهد***منير وقد تعفوا الرسوم وتهمد
ولا تمَحى الآيات من دار حرمة***بها منبر الهادي الذي كان يصعد
بها حجرات كان ينزل وسطها***من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها***أتاها البلى فالآي منها تجدد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت***عيون ومثلاها من الجفن تسعد
تذكرت الآء الرسول وما أرى***لها محصيا نفسي فنفسي تلبد
مفجعة قد شفها فقد أحمد***فظلت لألاء الرسول تعدد
أطالت وقوفا تذرف العين جهدها***على طلل القبر الذي فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت***بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبا***عليه بناء من صفيح منضد
تهيل عليه الترب ايدٍ واعينٍ***عليه وقد غارت بذلك اسعد
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة***عشية علوه الثرى لا يوسَد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم***وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السماوات يومه***ومن قد بكته الارض فالناس اكمد
وهل عدلت يوما رزية هالك***رزية يوم مات فيه محمد
تقطع فيه منزل الوحي عنهم***وقد كان ذا نور يغور وينجد
إمام لهم يهديهم الحق جاهدا***معلم صدق ان يطيعوه يسعدوا
عفوٌ عن الزلات يقبل عذرهم***وان يحسنوا فالله بالخير اجود
وان ناب أمر لم يقوموا بحمله***فمن عنده تيسير ما يتشدد
عزيز عليه ان يجوروا عن الهدى***حريص على ان يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثني جناحه***الى كنف يحنوا عليهم ويمهد
فاصبح محمودا الى الله راجعا***يبكيه حق المرسلات ويحمد
فجودي عليه بالدموع واعولي***لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد
وما فقد الماضون مثل محمد***ولا مثله حتى القيامة يفقد
أقول ولا يلقى لقولي عائب***من الناس إلا عازب العقل مبعد

وليس هوائي نازعا عن ثنائه***لعلي به في جنة الخلد

أخلد مع المصطفى ارجوا بذاك جواره*** وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
مما راااق لي..,,’