مقال أعجبني
للكاتب فرج اسماعيل حبيت إنكم تتطلعون عليه
اعتقالات الشرطة في صفوف الجيش التركي العلماني ليست حدثا عاديا، فحارس العلمانية الأول في هذا البلد الذي أطاح بأربع حكومات خلال نصف القرن الأخير، بدا مستأنساً منهاراً غير قادر على الحركة، فيما اثنان من قادته السابقين الكبار يطأطأن رأسيهما في طريقيهما للتحقيق.
لم يتخل أردوغان يوما عن هويته الإسلامية. لم يعد أحدا بشئ ولم يقل أقل من أنه حفيد العثمانيين، لكنه أمس كان قادرا على القول الحاسم بأن القانون سيطال كل من يتحدى إرادة الشعب التركي، وهو هنا يقصد اختياره للاسلام دينا ومنهجا.
هذه الشجاعة تعني أن تركيا الآن غير تركيا قبل عام 2002 عندما تولى حزب العدالة والتنمية الحكم فيها، وهذا ما قاله محلل تركي لقناة "الجزيرة" الانجليزية أمس عندما سئل عن الخطوة القادمة لحارس العلمانية.
أردوغان بدأ بما يجب أن يكون في مركز آخر دول الخلافة الإسلامية، تعضيد الهوية وتقويتها وعدم المساومة عليها، ونزع ضروس "العلمانية" وخلع قبعة أتاتورك، غير خائف من الغرب أو من أعداء الاسلام أو من أي حسابات من تلك التي يحسبها حكامنا الحاليون وغيرهم من المشتاقين.
لن يغامر جنرالات الجيش العلمانيين على التقدم خطوة واحدة، فسنوات طويلة من التعليم الديني الصامت غرست فيه جذور العودة إلى الأجداد. الشرطة التي تحركت لتعتقل ضباطا في الخدمة كانت واثقة من أن الجيش الآن غيره في الماضي، فالرتب الكبيرة من الشبان تدخل المساجد خمس مرات في اليوم، تحمل المصاحف، تنظر إلى الماضي غير البعيد، يوم كانت الدولة العثمانية قوية بالاسلام، قوة عظمى بكتاب الله وسنة رسوله.
الدستور العلماني، وتوكيل الجيش لتطبيقه وحمايته، كانا أكبر عقبة تعوق إرادة الشعب التركي المسلم للعودة إلى الجذور. استغرق الأمر عقودا أمام كل محاولة جادة لاعادة الدين إلى الحياة السياسية والاجتماعية، فما أسهل اطاحة حكومة تصدر قرارا برفع الأذان مثلا فوق المآذن، فستكون مخالفة للدستور الذي يضمن علمانية الدولة!
كم طالت الاعتقالات أصحاب مكتبات لأنهم تجرأوا وعرضوا كتبا دينية أو مصاحف. قضية تؤدي إلى السجن لو نقلت كاميرا محطة تلفزيونية الصلاة، أو أخطأت اذاعة فرفعت الآذان. الآن يظهر أردوغان مع آلاف من الأتراك وهم ركع سجود.
كان من الصعب تغيير هذا الدستور الجاثم فوق الصدور، فاختار دعاة الاسلام طريقا أصعب وأطول، وهو نشر الدين وتعليمه لحارسه وهو الجيش، ففتحت المدارس الدينية الممولة تمويلا ذاتيا أبوابها أمام ضباطه وعساكره، لينهلوا من الفقه والشريعة، ومع الزمن تربى داخل معقل العلمانية شباب مملوء قلبه باعادة تركيا إلى حديقتها الإسلامية كقوة كبرى يحسب لها ألف حساب.
دعاة التغيير في مصر يريدونها سهلة. خاطبوا الغرب على حساب هويتهم ودينهم، فبدلا من أن تتلبسهم شجاعة الرجال وينزلوا للشارع لفرض تغيير لا يقتلع جذورهم، استسلموا للخنوع الراسخ عبر التاريخ، الخائف المرتعب من العسكري والعفريت، وسلموا أمرهم كالعميان، لمن يخوض بهم الطريق إلى الضلال!
يبدأون من حيث بدأ أتاتورك، ولو نجحوا سيتوجب علينا أن ننتظر عقودا لننتهي من حيث انتهى أردوغان الذي يتحدث بثقة غير مسبوقة عن إرادة الشعب في مواجهة الجنرالات!
مع الفارق بين التركي أو الايراني وبين المصري المرعوب من الزانزانة إلا قلائل، المستتر بأسماء مستعارة مدعيا شجاعة الكلام فوق حروف الكي بورد، المرتجف من زوار الفجر، والذي وجد نجدته فيمن يكفيه كل هذه الهموم، ويقرع عليه بالتغيير بابه!
كان مشهدا رائعا عندما دخل بضعة جنود أمريكيين على بيت عجوز أفغانية في مدينة مرجة التي لا تزيد مساحتها عن قرية عندنا، ومع ذلك قضى 15 ألفا من حملة "مشترك" الأمريكية الأطلسية ثلاثة أسابيع في سبيل رفع العلم عليها. كانوا يحملون معلبات غذائية لتسليمها لها ولغيرها من السكان هدية من كرزاي وقائد القوات الأمريكية..
أمسكت العجوز بعصا لتضربهم ففروا من أمامها رعبا وخوفا!..
لنتخيل المشهد نفسه، مع مندوبين من الحزب الوطني يوزعون أكياس المكرونة على أي حارة مصرية قبل أي انتخابات!