آخر تجمع للهازم كان في حروب الرده عندما ارتدت بكر بن وائل وعنزة :
الكتاب:تاريخ الرسل والملوك
المؤلف:محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى : 310هـ)
كتب" قال أبو جعفر: وقد اختلف في تاريخ حرب المسلمين . فقال محمد بن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد ، عن سلمة عنه : كان فتح اليمانة واليمن والبحرين وبعث الجنود إلى الشأم في سنة اثنتي عشرة وأما زيد فحدثني عن أبي الحسن المدائني في خبر ذكره ، عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وأبي عييدة بن محمد بن أبي عبيدة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء ، بإسنادهم عن مشيخهم وغيرهم من علماء أهل الشأم وأهل العراق ؛ أن الفتوح في أهل الردة كلها كانت لخالد بن الوليد وغيره في سنة إحدى عشرة "
وكتب "" وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين، وتجمع المسلمون كلهم إلى العلاء بن الحضرمي وخندق المسلمون والمشركون، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم ؛ فكانوا كذلك شهراً ؛ فبينا الناس ليلة إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة ؛ كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال ، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم - وكانت أمه عجلية - فخرج حتى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له صلى الله عليه وسلم من أنت ؟ فانتسب لهم ، وجعل ينادي: يا أبجراه ! فجاء أبجر بن بجير ، فعرفه فقال : ما شأنك ؟ فقال : لا أضيعن الليلة بين اللهازم ! علام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وقيس وعنزة ! أيتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود ! فتخلصه، وقال : والله إني لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة ! فقال : دعني من هذا وأطمعني ؛ فإني قد مت جوعاً. فقرب له طعاماً ؛ فأكل ثم قال : زودني واحملني وجوزني أنكطلق إلى كيتي. ويقول ذلك لرجل قد غلب عليه الشراب ، ففعل وحمله على بعير ، وزوده وجوزه ؛ وخرج عبد الله بن حذف حتى دخل عسكر المسلمين ، فأخبرهم أن القوم سكارى ، فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عليهم عسكرهم، فوضعوا السيوف فيهم حيث شاءوا ، واقتحموا الخندق هرابا ، فمترد ، وناج ودهش ، ومقتول أو مأسور ، واستولى المسلمون على ما في العسكر ؛ لم يفلت رجل إلا بما عليه ؛ فأما أبجر فأفلت ، وأما الحطم فإنه الحطم بعل ودهش، وطار فؤاده ؛ فقام إلى فرسه والمسلمون خلالهم يجوسونهم - ليركبه ؛ فلما وضع رجله في الركاب انقطع به ، فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم ، والحطم يستغيث ويقول : ألا رجل من بني قيس بن ثعلبة يعقلني! فرفع صوته ، فعرف صوته
فقال : أبو ضبيعية ! قال : نعم ، قال : أعطني رجلك أعقلك ، فأعطاه رجله يعقله ، فنفحها فأطنها من الفخذ ، وتركه ، فقال : أجهز على ، فقال : إني أحب ألا تموت حتى أمضك. - وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه ، فأصيبوا ليلتئذ - وجعل الحطم لا يمر به في الليل أحد من المسلمين إلا قال : هل لك في الحطم أن تقتله ؟ ويقول : ذاك لمن لا يعرفه ، حتى مر به قيس بن عاصم ، فقال له ذلك ، فمال عليه فقتله ، فلما رأى فخذه نادرة ، قال : واسوأتاه ! لو علمت الذي به لم أحركه ؛ وحرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم ، فاتبعوهم ، فلحق قيس بن عاصم أبجر - وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس - فلما خشى أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب ، وسلم النسا ؛ فكانت رادة ،، وقال عفيف بن المنذر :
فإن يرقأ العرقوب لا يرقأ النسا ... وما كل من يهوى بذلك عالم
ألم تر أنا قد فللنا حماتهم ... بأسرة عمرو والرباب الأكارم
وأسر عفيف بن المنذر الغرورين سويد ، فكلمته الرباب فيه ، وكان أبوه ابن أخت التيم ، وسألوه أن يجيره ، فقال للعلاء : إني قد أجرت هذا ، قال : ومن هذا ؟ قال : الغرور ، قال : أنت غررت هؤلاء ، قال : أيها الملك ، إني لست بالغرور ؛ ولكني المغرور ، قال : أسلم ، فأسلم وبقي بهجر ، وكان إسمه الغرور ، وليس بلقب ؛ وقتل عفيف المنذر بن سويد المنذر، أخا الغرور لأمه، وأصبح العلاء فقسم الأنفال ، ونفل رجالاً من أهل ثباتا ، فكان فيمن نفل عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمتنة بن أثال ؛ فأما ثمامة فنفل ثباباً فيها خميصة ذات أعلام ، كان الحطم يباهي فيها ، وباع الثباب وقصد عظم الفلال لدارين ، فركبوا فيها السفن ، ورجع الآخرون إلى وائل فيهم ؛ فكتب العلاء بن الحضرمي إلى عامر بن عبد الأسود بلزوم ما هم عليه والقعود لأهل الردة بكل سبيل ، وأمر مسمعاً بمبادرتهم ، وارسل إلى خصفة التيمي والمثنى بن حارثة الشيباني ، فأقاموا لأولئك بالطريق ، فمنهم من أناب ، فقبلوا منه واشتملوا عليه ؛ ومنهم من أبى ولج فمنع من الرجوع فرجعوا عودهم على بدئهم ؛ حتى عبروا إلى دارين ، فجمعهم الله بها ، وقال في ذلك رجل من بني ضبيعة بن عجل ، يدعى وهبا ، يعير من ارتد من بكر بن وائل
ألم تر أن الله يسبك خلقه ... فيخبث أقوام ويصفو معشر
لحى الله أقواماً اصيبوا بخنعة ... أصابهم زيد الضلال ومعمر!
ولم يزل العلاء مقيماً في عسكر المشركين حتى رجعت إليه الكتب من عند من كان كتب إليه من بكر بن وائل ، وبلغه عنهم القيام بأمر الله ، والغضب لدينه ، فلما جاءه عنهم من ذلك من ذلك ما كان يشتهي ، أيقن أنه لن يؤتى من خلقه بشئ يكرهه على أحد من أهل البحرين ، وندب الناس إلى دارين ، ثم جمعهم فخطبهم ، وقال : إن الله قد جمع لكم أحزاب الشياطين وشرد الحرب في هذا البحر ؛ وقد أراكم من آباته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم ، ثم استعرضوا البحر إليهم ، فإن الله قد جمعهم ، فاقلوا : مفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولاً ما بقينا .
فارتحل وارتحلوا ، حتى إذا أتى ساحل البحر اقتحموا على الصاهل ، والجامل ، والشاحج والناهق ؛ والراكب والراجل ، ودعا ودعوا ؛ وكان دعاؤه ودعاؤهم : يا أرحم الراحمين ، يا كريم ، يا كحليم ، يا أحد ، يا صمد ي حي يا محيي الموتى ، يا حي يا قيوم ، لا إله إإلا أنت يا ربنا . فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله جميعاً يمشون على مثل رملة ميثاء ، فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل ، وإن ما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر في بعض الحالات ، فالتقوا بها ، واقتتلوا قتالاً شديداً ، فما تركوا بها مخبراً وسبوا الذراري ، واستاقوا الأموال ؛ فبلغ نفل الفارس ستة آلاف ، والراجل ألفين ، قطعوا ليلهم وساروا يومهم ؛ فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا ، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر :
ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل!
دعونا الذي شق البحار فجاءنا ... بأعجب من فلق البحار الأوائل
ولما رجع العلاء إلى البحرين ، وضرب الإسلام فيها بجرانه ، وعز الإسلام وأهله ، وذل الشرك وأهله ؛ أقبل الذين في قلوبهم ما فيها على الإرجاف مرجفون ، وقالوا : ها ذاك مفروق ، قد جمع رهطه. شيبان وتغلب والنمر ، فقال لهم أقوام من المسلمين : إذا تشغلهم عنا اللهازم - واللهازم يومئذ قد استجمع أمرهم على نصر العلاء وطابقوا . وقال عبد الله بن حذف في ذلك :
لا توعدنا بمفرق وأسرته ... إن يأتنا يلق فينا سنة الحطم
وإن ذا الحي من بكر وإن كثروا ... لأمة داخلون النار في أمم
فالنخل ظاهره خيل وباطنه ... خيل تكدس بالفتيان في النعم
وأقفل العلاء بن الحضرمي الناس ، فرجع الناس إلا من أحب المقام فقفلنا وقفل ثمامة ، ورأوا خميصة الحطم عليه دسوا له رجلاً ، وقالوا : سله عنها كيف صارت له ؟ وعن الحطم : أهو قتله أو غيره ؟ فأتاه ، فسأله عنها ، فقال : نفلتها . قال : أأنت قتلت الحطم : أهو قتله الحطم ؟ قال : لا ، ولوددت أنى كنت قتلته ، قال : فما بال هذه الخمصية معك ؟ قال : ألم أخبرك ! فرجع إليهم فأخبرهم ، فتجمعوا له ، ثم أتوه فاحتوشوه ؛ فقال : ما لكم ؟ قالوا : هل ينفل إلا القاتل ! قال إنها لم تكن عليه ، إنما وجدت في رحله ، قالوا : كذبت . فأصابوه .
قال : وكان مع المسلمين راهب في هجر ؛ فأسلم يومئذ فقيل : ما دعاك إلى الإسلام ؟ قال : ثلاثة أشياء ، خشيت أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل : فيض في الرمال ، وتمهيد أثباج البحار ، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر . قالوا : وما هو ؟ قال : اللهم أنت الرحمن الرحيم ؛ لا إله غيرك ، والبديع ليس قبلك شئ ، والدائم غير الغافل ، والحي الذي لا يموت ، وخالق ما يرى وما لا يرى ، وكل يوم أنت في شأن ، وعلمت اللهم كا شئ بغير تعلم فعلمت أن القوم لم يعانوا أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله .
فلقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون من ذلك الههجري بعد وكتب العلاء إلى أبي بكر : أما بعد ؛ فإن الله تبارك وتعالى فجر لنا الدهناء فيضاً لا ترى غوار به ، وأرانا آية وعبرة بعد غم وكرب ، لنحمد الله ونمجده ، فادع الله واستنصره لجنوده وأعوان دينه.
فحمد أبو بكر الله ودعاه ، وقال : وما زلت العرب فيما تحدث عن بلدانها يقولون : إن لقمان حين سئل عن الدهناء : أيحتقرونها أو يدعونها ؟ نهاهم ، وقال لا تبلغها الأرشية ، ولم تقر العيون ؛ وإن شأن هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمة قبلها . اللهم أخلف محمداً صلى الله عليه وسلم فينا ثم كتب إليه العلاء بهزيمة أهل الخندق وقتل الحطم . قتله زيد ومعمر : أما بعد، فإن الله تبارك إسمه سلب عدونا عقولهم، وأذهب ريحهم بشراب أصابوه منالنهار، فاقتحمنا عليهم خندقهم ، فوجدناهم سكارى . فقلناهم إلا الشريد ، وقد قتل الله الحطم .
فكتب إلي أبو بكر : أما بعد، فإن بلغك عن نبي شيبان بن ثعلبة تمام على ما بلفك ، وخاض فيه المرجفون ، فابعث إليهم جنداً فأوطئهم وشرد بهم من خلفهم . فلم يجتمعوا ؛ ولم يصر ذلك من إرجافهم إلى شئ ذكر الخبر عن ردة أهل عمان ومهرة واليمن"